
في ظل تصاعد الحديث عن لبنان كدولة “فاشلة”، أو حتى “وهمية” كما باتت توصيفات بعض الدوائر الغربية تتداولها، ومع التشدد الذي يظهره بعض الإخوة العرب في الحكم على لبنان بأنه عصيّ على الإصلاح والإدارة، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر بمثابة رسالة رجاء وأمل. إنها تذكير بأن لبنان لم يصل بعد إلى طريق الزوال، وأن على العالم أن يعيد النظر في تقديره لمصير هذا الوطن المتعدد الطوائف والثقافات.
الزيارة البابوية ليست مجرد حدث ديني، بل هي رمز سياسي ومعنوي في آن واحد. فهي تعكس الاهتمام الدولي برؤية لبنان من الداخل، وبشعبه الذي يعاني من اليأس، لا سيما المسيحيين الذين يواجهون هجرة متصاعدة، وفي المقابل المسلمين الذين لم تتوقف حياتهم الاجتماعية عن التفاعل والتأثر بالمستجدات الداخلية والخارجية. وقدمت هذه الزيارة فرصة للتعرف على واقع اللبنانيين جميعًا، بعيدًا عن الانقسامات التقليدية، ومن دون تحميل أي فئة المسؤولية وحدها عن أزمات الدولة.
في هذا السياق، لا يمكن فصل الجانب الرعوي للزيارة عن البعد الوطني: فالهجرة المسيحية، شأنها شأن الهجرة المسلمة، تمثل تهديدًا وجوديًا للوطن، وتشكل انعكاسًا لفشل مؤسسات الدولة في توفير بيئة مستقرة ومحفزة للمواطنيين للبقاء والمساهمة في بناء مستقبلهم. لذلك، كان الأجدر بالزيارة أن تتجاوز مجرد الدعوة إلى وقف الهجرة، لتشمل مبادرة وطنية جامعة تضع الدولة والمجتمع المدني والكنائس والمساجد في قلبها، بهدف تمكين العودة وبناء الثقة بين المواطن ووطنه.
أما ما يتعلق بالتعايش بين المسيحيين والمسلمين، فقد أشار البابا إلى أهمية الحفاظ عليه. لكنه من الضروري الإقرار بأن التعايش وحده لا يكفي، بل يجب تطويره نحو نموذج دولة مدنية حديثة تحترم الكل، وتحفظ الحقوق، وتمنح الشباب فرصة لقيادة الوطن، بعيدًا عن التوريث السياسي والرموز التقليدية للخراب. فالكنيسة والمسجد يمكن أن يكونا عنصرين داعمين لوحدة لبنان لا مجرد مرافق رمزية في تجربة التعايش.
زيارة البابا إذن، في جوهرها، دعوة لإعادة الحيوية الوطنية والوحدة اللبنانية. فهي تظهر أن لبنان ليس مجرد طوائف متجاورة، بل كيان واحد له جذور عميقة في التاريخ والمستقبل، وأن على الدولة والمجتمع أن يتكاتفوا للحفاظ عليه، خاصة في زمن الانقسامات والمطالبات بالفدرلة، بعيدًا عن أي لغة تهميش أو تمييز.
في النهاية، تبقى رسالة البابا واضحة: السلام والمغفرة أساس، لكن العمل الوطني والتعبئة الشاملة هما الطريق لضمان استمرار لبنان كدولة موحدة وقوية. هذا هو التحدي الأكبر، والرهان الحقيقي على أمل لبنان في المستقبل.



